اليوم اكمل شهر رمضان الذى انزل فيه القران
ما معنى كلمة "شهر" التي جاءت في قوله: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"؟.
إن كلمة "شهر" مأخوذة من الإعلام والإظهار،
ومازلنا نستخدمها في الصفقات فنقول مثلا:
لقد سجلنا البيع في "الشهر العقاري" أي نحن نعلم الشهر العقاري بوجود صفقة، حتى لا يأتي بعد ذلك وجود صفقة على صفقة، فكلمة "شهر" معناها الإعلام والإظهار، وسميت الفترة الزمنية "شهراً" لماذا؟
لأن لها علامة تظهرها، ونحن نعرف أننا لا نستطيع أن نعرف الشهر عن طريق الشمس؛ فالشمس هي سمة لمعرفة تحديد اليوم، فاليوم من مشرق الشمس إلى مشرق آخر وله ليل ونهار.
ولكن الشمس ليست فيها علامة مميزة سطحية ظاهرة واضحة تحدد لنا بدء الشهر، إنما القمر هو الذي يحدد تلك السمة والعلامة بالهلال الذي يأتي في أول الشهر، ويظهر هكذا كالعرجان القديم،
إذن فالهلال جاء لتمييز الشهر، والشمس لتمييز النهار، ونحن نحتاج لهما معا في تحديد الزمن.
إن الحق سبحانه وتعالى يربط الأعمال العبادية بآيات كونية ظاهرة التي هي الهلال، وبعد ذلك نأخذ من الشمس اليوم فقط؛ لأن الهلال لا يعطيك اليوم، فكأن ظهور الهلال على شكل خاص بعدما يأتي المحاق وينتهي، فميلاد الهلال بداية إعلام وإعلان وإظهار أن الشهر قد بدأ، ولذلك تبدأ العبادات منذ الليلة الأولى في رمضان؛ لأن العلامة ـ الهلال ـ مرتبطة بالليل، فنحن نستطلع الهلال في المغرب، فإن رأيناه نقل شهر رمضان بدأ. ولم تختلف هذه المسألة لأن النهار لا يسبق الليل، إلا في عبادة واحدة وهي الوقوف بعرفة،
فالليل الذي يجئ بعدها هو الملحق بيوم عرفة.
وكلمة "رمضان" مأخوذة من مادة (الراء ـ والميم ـ والضاد)، وكلها تدل على الحرارة وتدل على القيظ "ورمض الإنسان" أي حر جوفه من شدة العطش، و"الرمضاء" أي الرمل الحار، وعندما يقال: "رمضت الماشية" أي أن الحر أصاب خفها فلم تعد تقوى أن تضع رجلها على الأرض،
إذن فرمضان مأخوذ من الحر ومن القيظ، وكأن الناس حينما أرادوا أن يضعوا أسماء للشهور جاءت التسمية لرمضان في وقت كان حاراً، فسموه رمضان
كما أنهم ساعة سموا مثلا "ربيعاً الأول وربيعاً الآخر" أن الزمن متفقاً مع وجود الربيع،
وعندما سموا جمادى الأولى وجمادى الآخرة" كان الماء يجمد في هذه الأيام.
فكأنهم لاحظوا الأوصاف في الشهور ساعة التسمية، ثم دار الزمن العربي الخاص المحدد بالشهور القمرية في الزمن العام للشمس. فجاء رمضان في صيف، وجاء في خريف، لكن ساعة التسمية كان الوقت حاراً.
وهب أن إنسانا جاءه ولد جميل الشكل، فسماه "جميلاً". وبعد ذلك مرض والعياذ بالله بمرض الجدري فشوه وجهه، فيكون الاسم قد لوحظ ساعة التسمية، وإن طرأ عليها فيما بعد ذلك ما يناقض هذه التسمية، وكأن الحق سبحانه وتعالى حينما هيأ للعقول البشرية الواضعة للألفاظ أن يضعوا لهذا الشهر ذلك الاسم، دل على المشقة التي تعتري الصائم في شهر رمضان، وبعد ذلك يعطي له سبحانه منزلة تؤكد لماذا سمي، إنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن،
والقرآن إنما جاء منهج هداية للقيم، والصوم امتناع عن الاقتيات، فمنزلة الشهر الكريم أنه يربي البدن ويربي النفس، فناسب أن يوجد التشريع في تربية البدن وتربية القيم مع الزمن الذي جاء فيه القرآن بالقيم، "شهر رمضان الذين أنزل فيه القرآن". وإذا سمعت "أنزل فيه القرآن" فافهم أن هناك كلمات "أنزل" و"نزًل" و"نزل"، فإذا سمعت كلمة "أنزل" تجدها منسوبة إلى الله دائما:
{إنا أنزلناه في ليلة القدر "1"}
(سورة القدر)
أما في كلمة "نزل" فهو سبحانه يقول:
{نزل به الروح الأمين "193"}
(سورة الشعراء)
وقال الحق:
{تنزل الملائكة}
(من الآية 4 سورة القدر)
إذن فكلمة "أنزل" مقصورة على الله،
إنما كلمة "نزًل" تأتي من الملائكة، و"نزل" تأتي من الروح الأمين الذي هو "جبريل"،
فكأن كلمة "أنزل" بهمزة التعدية، عدت القرآن من وجوده مسطوراً في اللوح المحفوظ إلى أن يبرز إلى الوجود الإنساني ليباشر مهمته. وكلمة "نزل" و"نزًل" نفهمهما أن الحق أنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا مناسباً للأحداث ومناسباً للظروف، فكان الإنزال في رمضان جاء مرة واحدة، والناس الذين يهاجموننا يقولون كيف تقولون: إن رمضان أنزل فيه القرآن مع أنكم تشيعون القرآن في كل زمن، فينزل هنا وينزل هناك وقد نزل في مدة الرسالة المحمدية؟
نقول لهم: نحن لم نقل إنه "نزل" ولكننا قلنا "أنزل"، فأنزل: تعدي من العلم الأعلى إلى أن يباشر مهمته في الوجود. وحين يباشر مهمته في الوجود ينزل منه "النجم" ـ يعني القسط القرآني ـ موافقا للحدث الأرضي ليجئ الحكم وقت حاجتك، فيستقر في الأرض، إنما لو جاءنا القرآن مكتملاً مرة واحدة فقد يجوز أن يكون عندنا الحكم ولا نعرفه، لكن حينما لا يجئ الحكم إلا ساعة نحتاجه، فهو يستقر في نفوسنا.
وأضرب هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ أنت مثلاً تريد أن تجهز صيدلية للطوارئ في المنزل، وأنت تضع فيها كل ما يخص الطوارئ التي تتخيلها، ومن الجائز أن يكون عندك الدواء لكنك لست في حاجة له، أما ساعة تحتاج الدواء وتذهب لتصرف تذكرة الطبيب من الصيدلية، عندئذ لا يحدث لبس ولا اختلاط،
فكذلك حين يريد الله حكماً من الأحكام ليعالج قضية من قضايا الوجود فهو ينتظر حتى ينزل فيه حكم من الملأ الأعلى من اللوح المحفوظ، إنما الحكم موجود في السماء الدنيا،
فيقول للملائكة: تنزلوا به، وجبريل ينزل في أي وقت شاء له الحق في أن ينزل من أوقات البعثة المحمدية، أو الوقت الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجد فيه الحكم الذي يغطي قضية من القضايا.
إذن فحينما يوجد من يريد أن يشككنا
نقول له: لا.
نحن نملك لغة عربية دقيقة، وعندنا فرق بين "أنزل" و"نزًل" و"نزل" ولذلك فكلمة "نزل" تأتي للكتاب، وتأتي للنازل بالكتاب يقول تعالى:
{نزل به الروح الأمين "193" }
(سورة الشعراء)